دعوة أوجلان للسلام- فصل جديد في القضية الكردية بتركيا؟

شهدت المسألة الكردية في الجمهورية التركية منعطفًا هامًا بعد مبادرة السيد دولت بهتشلي، زعيم حزب الحركة القومية، الذي أطلق دعوةً للحوار مع السيد عبدالله أوجلان، المؤسس والقائد الرمزي لحزب العمال الكردستاني، وذلك في الثاني والعشرين من شهر أكتوبر لعام ألفين وأربعة وعشرين. وقد أفضت هذه الدعوة إلى تصريح غير متوقع من السيد أوجلان، يناشد فيه التنظيم بالتخلي عن السلاح والانخراط في حل ذاتي، مما ينبئ بدخولنا حقبة جديدة ومفصلية في مسار هذه القضية المعقدة.
على امتداد واحد وأربعين عامًا، تسببت العمليات التي قام بها حزب العمال الكردستاني، والتي وصفت بالإرهابية، في تكبيد الدولة التركية خسائر جمة وتكاليف باهظة. حتى وقت قريب، لم يكن أحد يتوقع أن يخرج مثل هذا النداء من مؤسس التنظيم نفسه. وقد تم نقل هذه الرسالة، التي تحمل في طياتها أهمية بالغة، عبر وفد من حزب الشعوب الديمقراطي (DEM)، الذي قام بزيارات متكررة للسيد أوجلان في سجنه.
في سياق متابعة هذه الرسالة الهامة، بادرت فروع حزب الشعوب الديمقراطي في كل من ديار بكر ومدينة وان إلى نصب شاشات عرض ضخمة لنقل الرسالة إلى الجماهير الحاضرة. ففي مدينة وان، تم عرض الرسالة في الساحة الرئيسية للمدينة، بينما تم نقل البث في ديار بكر في ميدان داغكابي. بالإضافة إلى ذلك، تمت مشاهدة البث الحي في ملعب 12 مارس في مدينة القامشلي السورية، التي تخضع لسيطرة وحدات حماية الشعب الكردية (YPG).
في معرض كلمته، قام السيد أوجلان باستعراض الأوضاع والأحداث التاريخية التي أدت إلى نشأة حزب العمال الكردستاني، وهي ظروف تتصل، كما هو معروف، بإنكار الهوية واللغة والثقافة الكردية، نتيجة للسياسات التي اتبعتها الدولة القومية في تلك الحقبة.
وكان الرئيس التركي، السيد رجب طيب أردوغان، قد أقرّ بهذه الحقيقة في وقت سابق، حيث رأى أن غياب المساحة السياسية اللازمة للتعبير عن الهوية الكردية كان من الأسباب الرئيسية التي أدت إلى ظهور هذا التنظيم.
إلا أن السيد أوجلان أكد أن هذه الظروف لم تعد قائمة في الوقت الراهن، مما يعني أن استمرار حزب العمال الكردستاني في مساره المسلح لم يعد له أي مسوغ أو مبرر. وشدد على أنه "لا يمكن تحقيق أي مكاسب أو حقوق عن طريق السلاح بعد الآن"، وهو تصريح محوري يقوض الأسس التي قام عليها التنظيم، خاصة وأنه صادر عن قائده ومؤسسه.
قبل وصول السيد أردوغان وحزب العدالة والتنمية إلى السلطة، لم تكن الدولة التركية تعترف بالهوية الكردية، مما وفر لحزب العمال الكردستاني حجة رئيسية للاستمرار في نشاطه، وإن كان ذلك لا يبرر شرعية أفعاله. ولكن السيد أردوغان، انطلاقًا من قناعاته الإسلامية الراسخة التي ترفض إنكار أي قومية أو حظر لغتها، رأى أن الحل الأمثل يكمن في تعزيز أواصر الأخوة والوحدة بين الأتراك والأكراد والعرب.
وفي الثاني عشر من شهر أغسطس لعام ألفين وخمسة، أعلن السيد أردوغان في خطاب تاريخي ألقاه في مدينة ديار بكر أنه يعترف بوجود "المشكلة الكردية"، متعهدًا بالعمل على حلها بشكل جذري، على عكس السياسيين السابقين الذين تجنبوا اتخاذ خطوات جادة في هذا الاتجاه. وقد عمل السيد أردوغان على تفكيك عناصر هذه المشكلة بجرأة وشجاعة لم يسبق لها مثيل، متناولًا مختلف جوانبها وأبعادها:
- قضية اللغة الكردية وأهمية الحفاظ عليها وتعزيزها.
- مسألة الهوية الكردية والحاجة إلى الاعتراف بها واحترامها.
- الحق في التنظيم السياسي والاجتماعي، والحق في التعليم باللغة الكردية.
- رفع حالة الطوارئ التي كانت مفروضة على المناطق الكردية.
- معالجة التفاوت التنموي الذي تعاني منه المناطق الكردية، والعمل على تحقيق التنمية المستدامة.
لم يكتفِ السيد أردوغان بإجراء الإصلاحات القانونية اللازمة، بل أطلق مبادرة "الانفتاح" ثم "عملية الحل"، على الرغم من إدراكه للمخاطر السياسية المحتملة التي قد تترتب على ذلك.
وكان جوهر عملية الحل يقوم على الاعتراف الكامل بالوجود الكردي وهويته ولغته وثقافته الغنية والمتنوعة، مقابل تخلي حزب العمال الكردستاني عن السلاح والعودة إلى المسار السياسي السلمي. ولأن التنظيم كان يمثل الطرف المسلح في المعادلة، فقد كان من الضروري التعامل معه بشكل مباشر لتحقيق هذا الهدف النبيل.
كيف انهارت عملية السلام؟
خلال فترة عملية الحل، تم وقف إطلاق النار بشكل متبادل، ولم تشن الدولة التركية أي عمليات عسكرية ضد مواقع حزب العمال الكردستاني، منتظرةً منه الوفاء بتعهده بالتخلي عن السلاح وسحب مقاتليه من الأراضي التركية.
ولكن التطورات المتسارعة في سوريا أدت إلى تغيير مسار الأمور بشكل كبير. فقد حصل حزب العمال الكردستاني على دعم عسكري ولوجستي من الولايات المتحدة الأمريكية تحت ذريعة محاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وهو ما أغراه بالبقاء في المشهد المسلح والاستمرار في تنفيذ أجندته الخاصة.
وهنا ظهر جليًا أن القوى الدولية والإقليمية، وعلى رأسها الولايات المتحدة وأوروبا والنظام السوري، لم تكن معنية بحل القضية الكردية في تركيا بشكل حقيقي ونهائي، بل كانت تستخدم حزب العمال الكردستاني كورقة ضغط سياسية وعسكرية ضد أنقرة لتحقيق مصالحها الخاصة.
استغل الحزب فترة توقف العمليات العسكرية ضده لتعزيز تواجده وانتشاره في المناطق الجبلية الوعرة في تركيا، واستفاد بشكل كبير من البلديات التي كان يسيطر عليها حزب الشعوب الديمقراطي؛ لتجنيد المزيد من الشباب وحتى الأطفال، ما أدى في نهاية المطاف إلى انهيار عملية الحل وتلاشي الآمال في تحقيق السلام.
مع انتهاء عملية الحل، أطلقت الدولة التركية حملة عسكرية واسعة النطاق وغير مسبوقة ضد الإرهاب، وتمكنت من القضاء على وجود حزب العمال الكردستاني داخل الأراضي التركية بشكل شبه كامل. وهكذا، لم يعد الإرهاب يمثل مشكلة داخلية بقدر ما بات مصدر قلق خارجي؛ بسبب استمرار وجود الحزب في الأراضي السورية، حيث يحظى بدعم من الولايات المتحدة وإسرائيل؛ لاستخدامه كورقة ضغط ضد تركيا.
من خلال هذه العملية السياسية الجديدة، التي يقودها كل من السيد أردوغان والسيد بهتشلي، ومع الإعلان الأخير الذي صدر عن السيد أوجلان، تم حسم البُعد الكردي من القضية بشكل قاطع. ومن الآن فصاعدًا، فإن أي جهة تتعاون مع الولايات المتحدة تحت مسمى حزب العمال الكردستاني لن تكون ممثلة للأكراد، بل ستكون مجرد كيان يسعى إلى البقاء وتحقيق مصالحه الخاصة على حساب الشعب الكردي.
وقد أكد السيد أردوغان مرارًا وتكرارًا أن حزب العمال الكردستاني لا يمثل الشعب الكردي الأصيل، وأنه لا بد من الحوار والتواصل مع الشعب الكردي نفسه عند الحديث عن حقوقه المشروعة. وتجدر الإشارة إلى أن عدد النواب الأكراد داخل حزب العدالة والتنمية الحاكم يفوق عدد النواب الأكراد في حزب الشعوب الديمقراطي المعارض، كما أن معظم الإصلاحات المتعلقة بالقضية الكردية قد تمت على يد السيد أردوغان وحزبه.
لم يقتصر إعلان السيد أوجلان على الدعوة إلى التخلي عن السلاح فقط، بل شمل أيضًا رفضًا قاطعًا للمطالب المتعلقة بالحكم الذاتي أو الفدرالية، مؤكدًا أنها لن تحقق أي فائدة حقيقية للشعب الكردي.
وعلى الرغم من أن الاستجابة الفورية لدعوة السيد أوجلان كانت موضع شك وتردد، فإن اللقاءات التي جرت بين قيادات حزب الشعوب الديمقراطي وقيادات حزب العمال الكردستاني في قنديل وإمرالي تشير إلى وجود تجاوب إيجابي مع هذه الدعوة التاريخية. ولم يكن السيد أوجلان ليطلق هذا النداء المصيري دون أن يكون على يقين من وجود استعداد حقيقي لدى الحزب للاستجابة له.
يتزامن هذا التحول الهام مع التغيرات الجذرية التي تشهدها الساحة السورية، وخاصة بعد تراجع موقف النظام السوري. ولطالما كان بشار الأسد من أكبر الداعمين لحزب العمال الكردستاني، وهو ما ساعده على البقاء والاستمرار في نشاطه، خاصة من خلال التعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية. ومع تغير المعادلات الإقليمية والدولية، ربما وجد الحزب نفسه في مأزق حقيقي، وهو ما دفع السيد أوجلان إلى تقديم هذه الدعوة كحل يتيح له الخروج من الأزمة بأقل الخسائر.
بفضل هذه الخطوة الجريئة، تدخل المنطقة مرحلة جديدة من الاستقرار والازدهار، وتثبت تركيا مرة أخرى أنها لاعب رئيسي ومؤثر قادر على إعادة تشكيل المعادلات السياسية في المنطقة بما يخدم مصالحها ويحقق الأمن والسلام.